الخبر السيئ هو أنَّ أزمةً اقتصادية قد تضرب العالم خلال عامين، أما الخبر الجيد، أو الأفضل، فهو أن مثل هذه الصدمة ليست حتمية بعد، بل محتملة بنسبة 50%، لكن في كل الأحوال، فإن العالم المتقدم يقترب من مفترق طرق، وبينما يؤدي أحد الطريقين إلى نموٍ أعلى وشكلٍ أكثر شمولية من الرأسمالية، يقود الطريق الآخر إلى الكساد والاضطراب وعدم الاستقرار، حسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
تقرير الغارديان يتضمن لقاء مع محمد العريان، الذي يعد واحدًا من أكبر الأسماء في الأسواق المالية، وسبق أن عمل مستشارًا للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
وُلِدَ العريان في ولاية نيويورك الأميركية لأبوين مصريَّين، وقضى 14 عاماً في بيمكو، صندوق السندات الأكبر في العالم، فيما تولَّى منصب الرئيس التنفيذي طيلة ستة من الأربعة عشر عاماً قبل أن يستقيل، مشيراً إلى حاجته لمنظورٍ جديدٍ في الحياة، ولأن يقضي وقتاً أطول مع عائلته. فحين تمَّت ابنته عامها الثالث عشر، أعطته قائمةً بـ22 حدثاً رئيسياً في حياتها، كان هو غائباً عنها كلها.
تلقى العريان تعليمه في المملكة المتحدة، في جامعتيّ كامبريدج وأوكسفورد، وبدأ حياته الوظيفية في صندوق النقد الدولي، ويعمل الآن كبير المستشارين الاقتصاديين لشركة أليانز، وهي المجموعة المالية الألمانية التي تمتلك بيمكو، والتي يعمل بها رئيس الوزراء البريطاني السابق غوردون براون كمستشارٍ أيضاً.
ما السبب وراء هذه الأزمة المتوقعة؟
يرى العريان أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو عملية بريكسيت، يعد إحدى الإشارات التي تدل على أزمة النظام. وتتضمَّن الإشارات الأخرى حقيقة أنَّ 30% من الدين الحكومي العالمي جرى تداوله مع عوائدٍ سلبية في وقتٍ واحد من العام الماضي 2016، ما يعني أنَّ المستثمرين كانوا يشترون أصولاً لن يجنوا منها إلا خسارة المال. ثم يأتي بعد ذلك انتخاب الرئيس الأميركي ترامب، بالإضافة إلى الانتخابات الفرنسية التي هُزِمَ فيها اثنان من أحزاب المؤسسة الحاكمة في الجولةِ الأولى. لم يكن أحدٌ يتوقَّع كل هذه الأحداث منذ 18 شهرًا.
ويقول العريان إنَّ السياسيين كانوا أذكياءً لإبطاء عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتمديد الجدول الزمني، وتجنُّب الالتزام بقراراتٍ تفرضها الأسواق، وهو ما سَمَحَ للمستثمرين بالتوقف عن الهوس بالأشكال “الصعبة” و”السهلة” للخروج من الاتحاد الأوروبي، والتفكير في شروط “الخروج البطيء”.
ويؤكد العريان قائلًا: “ما زلنا حتى الآن في مرحلة الإيقاف المؤقت، بما يمتد إلى الانتخابات العامة وما بعدها. ثم بعد ذلك ستبدأ الأسواق بطيئاً، ولا بد أن أشدِّد هنا على أنَّ هذا سيجري على نحوٍ بطيء، في نفاد صبرها، ومن ثم تبدأ في إيلاء الاهتمام، أكثر مما هو في الوقتِ الراهن، للمواقف التفاوضية من كلا الجانبين بشأن الانفصال البريطاني”.
لماذا تراجع الخوف من ترامب وزاد الخوف عليه!؟
الأمر نفسه ينطبق على ترامب؛ إذ إنَّه يبدو الجانب الحمائي من حملته، الذي كان معنياً بإخافة الأسواق من قبل، أقل إثارةً للخوف اليوم. ففي الحقيقة، كما يقول العريان، لم تكن الحمائية مشكلة ترامب الأولى قط، بل كانت في وراثته لـ”وضعٍ معقد من الاتفاقات التجارية”. وفي النهاية، يتوقَّع العريان تقديم تنازلاتٍ تسمح للرئيس بأن يقول إنَّ التجارة “لا تزال حرة، لكن أكثر عدلاً”.
ماذا كانت مشكلة ترامب الأولى إذاً؟ يجيب العريان: “إرث سنواتٍ طويلةٍ من النمو المنخفض ونموٍ شامل غير كافٍ: كسور بالنظام تراكمت مع مرور الوقت، وأصبح من الصعب جداً التنبؤ بنقاط التحول”.
وهذه هي النقطة الأساسية وهي السبب لتوقع العريان اقتراب العالم المُتقدم من مفترق الطرق. ولعدم المساواة الناتج عن مناخ انخفاض النمو الحالي وهي تتلخص في ثلاثة عناصر: عدم المساواة في الثروة، والدخل، والفرص. ويتجلى انعدام الفرص في ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب في العديد من بلدان منطقة اليورو، وهو العنصر الأكثر قابلية للانفجار.
الغضب الشبابي
ويقول العريان: “في اللحظة التي تبدأ فيها الحديث عن عدم تكافؤ الفرص، فإنَّك تُغذي سياسة الغضب. وسياسة الغضب لديها ميلٌ إلى التسبُّب في نتائج غير محتملة. والخطر الرئيسي هو أنَّنا لا نعرف مدى إرهاق النظام الأساسي. ولكن ما نعرفه هو أنَّنا نحصل على إشاراتٍ تُشير إلى أنَّه تحت ضغطٍ هائل، ما يعني زيادة احتمال حدوث أخطاء في السياسة أو حوادث بالأسواق الاقتصادية”.
وكان العريان قد أصدر كتاباً مؤخراً بعنوان: “THE ONLY GAME IN TOWN” (اللعبة الوحيدة المدينة) حذر فيه من تدهور اقتصادي محتمل، قائلاً “مسارنا الاقتصادي الحالي يقترب من نهايته. فالعلامات كلها موجودة حولنا: النمو البطيء، عدم المساواة المتزايد، جيوب عالية من البطالة، والأسواق المالية المزعجة، على سبيل المثال لا الحصر. قريباً سوف نصل إلى مفترق الطرق.
يشرح العريان كيف ولماذا أصبحت البنوك المركزية الجهات الفاعلة السياسية الهامة، والأهم من ذلك، لماذا لا يمكن أن يستمر هذا الدور وحده.
وأشار إلى أن البنوك المركزية أنقذت النظام المالي من الانهيار في عام 2008 والركود الاقتصادي لعدة سنوات، ولكنهم يفتقرون إلى الأدوات التي تمكنهم من العودة إلى النمو الشامل والاستقرار المالي الدائم.
وحسب تقرير الغارديان فإن الجزء الغامض بالأمر هو أنَّ الأسواق المالية لا تعكس هذه المخاوف، فمعدلات التقلب الاقتصادي في أقل درجة لها منذ عام 1983، وعن هذا الأمر يقول العريان: “إذا تحدثت إلى المستثمرين، فسوف يُخبرونك عن مدى قلقهم بشأن الجغرافيا السياسية. وإذا سألتهم عن أوضاعهم، فسوف يقولون لك إنَّها في أقصى درجة خطر تقريباً”.
ويعتقد العريان أنَّ هناك تفسيراتٍ مختلفة. إذ اعتاد المستثمرون الاعتقاد بأنَّ البنوك المركزية يُمكنها أن تقمع التقلب. كما يرون أنَّ النمو المنخفض يبدو مستقراً. ويعتقدون أنَّ أكوام النقود الموجودة بالميزانيات العمومية لبعض الشركات ستكون متوفرة في شكلِ أرباح وأسهم إعادة شراء. وأضاف: “أنت بحاجة إلى هزة كبيرة لتغيير هذه العقلية”.
أدلة لا لبس فيها
ويضيف أنه مع ذلك هناك “أدلة لا لبس فيها” على أنَّ هذه الظروف “الاصطناعية” لا يُمكن أن تستمر. فبعد الأزمة المالية في الفترة من 2008 إلى 2009، كانت هناك فرصة صغيرة لبناء نموذج جديد للنمو يُمّكن الحكومات من تخطى الأزمة من خلال الإنفاق على البنية التحتية والإصلاحات.
ويعتقد العريان أنَّه بدلاً من ذلك، تبدد شعور الإلحاح بعيداً. وأوقفت البنوك المركزية الأزمة، ولكن بقية حزمة الإصلاحات لم يجر تنفيذها. وأنَّ ما نراه الآن هو حدود الاعتماد على البنوك المركزية.
وأضاف: “لقد أصبحت السياسة مُدمِّرة للغاية، وأصبح التمويل مُدمِّراً للغاية. وبالاعتماد على المكان الذي تنظر فيه إلى العملية السياسية، فإنَّنا إما في الطريق نحو التحول إلى نموٍّ أعلى وأكثر شمولية، من شأنه أن يُقلل من الاستقطاب السياسي وسياسات الغضب، أو بدلاً من ذلك، سيُصبح النمو المنخفض ركوداً، والاستقرار المالي الاصطناعي سيُصبح تقلباً مزعجاً، وتصبح السياسة أكثر فوضوية”.
هل لديه حل؟
كيف يُمكننا انتهاج سياسات أفضل وأكثر أماناً؟ لدى العريان خطة من أربع نقاط في هذا الصدد.
أولاً: يرى العريان أنَّنا “بحاجة إلى العودة إلى الاستثمار في الأمور التي تعزز النمو الاقتصادي، والبنية التحتية، ونظام ضريبي داعم للنمو في الولايات المتحدة، وإعادة تأهيل العمالة… وإذا كنت في أوروبا، فإنْ تشغيل الشباب هي القضية التي ينبغي التفكير بجدية بالغة حيالها”.
ثانيًا: يجب على البلدان التي تستطيع أن تُقدم ذلك بالفعل أنْ “تستغل الحيز المالي”، ما يعني الاقتراض لاستثمار الضرائب أو خفضها. ويضع العريان الولايات المتحدة وألمانيا بشكلٍ لا لبس فيه في هذه الفئة “وإلى حدٍّ ما المملكة المتحدة”.
ثالثًا: يجب معالجة جيوب المديونية الشديدة، وهو درسٌ تعلمه من العمل لدى صندوق النقد الدولي في أميركا اللاتينية في الثمانينيات. ويقول العريان: “عندما يكون لديك ديون متراكمة، فإنَّها تكون مثل سحابةٍ سوداء. تمتص الأكسجين من النظام. ولا يُمكن أنْ ينمو الاقتصاد معها؛ وسواءٌ كانت هذه هي ديون اليونان أو قروض الطلاب في الولايات المتحدة، تحتاج إلى التعامل مع الديون المتراكمة”. ويعترف العريان بأنَّ عملية الإعفاء من الديون أمرٌ صعب، لأنَّ بعض الناس يُكافأون بشكلٍ غير عادل، ولكن طبقاً له، فالبدائل أسوأ.
رابعًا: تحتاج الإدارة الإقليمية والعالمية للإصلاح. ويُقارن العريان هنا منطقة اليورو بكرسيٍّ بلا ظهر أو ذراعين، مع ساقٍ ونصف بدلاً من أربع. فالساق الكاملة هي الاتحاد النقدي، والنصف هو اتحاد البنوك. والساقان المفقودتان هما التكامل المالي، وهذا يعني الميزانية المشتركة، والتوافق السياسي. ولا عجب أنَّ منطقة اليورو غير مستقرة، ويقول: “يُمكنك القيام بالمهام بثلاث أرجل، لكن لا يمكنك القيام بها بواحدةٍ ونصف”.
كيف يستثمر العريان أمواله؟
وبالعودة إلى النقطة الأساسية للعريان وهي مفترق الطرق، فلا يبدو أي من المناورات المطلوبة سهلاً. وقال عن ذلك: “أنت لا تحتاج إلى حدثٍ كوني. إذا كنت ترغب في اتخاذ المنعطف الجيد في مفترق الطرق هذا، عليك أنْ تحقق بعض التقدم في بعض هذه العناصر. وإذا لم تقم بذلك، فإنَّنا سنأخذ المنعطف الآخر”. ويقول العريان إنَّ الاختيار بين هذه الاحتمالات المتساوية هو مسألة تعتمد على السياسة.
أما عن واجب المستثمرين، فيقول العريان إنَّ نهجه الخاص، الذي يعترف بأنَّه من الصعب على الشخص العادي أن ينتهجه، يشبه عمود رفع الأثقال. في إحدى نهايتيه، يستثمر في الشركات الناشئة عالية المخاطر، حيث لا تحتاج إلى تحقيق النجاح في كل الجوانب. وفي النهاية الأخرى، يعمل في الاستثمارات النقدية وغيرها. وفي الوسط، سيستثمر في الأسواق العامة فقط من الناحية التكتيكية. ويضيف العريان أنَّ خلاصة الأمر أنَّه لا يميل إلى المخاطرة.